لا تستطيع الرأسمالية تأدية وظيفتها دون نظام محاسبي سليم. فقد تحققت النقلة من الإقطاعية إلى الرأسمالية في عصري النهضة والإصلاح في أوروبا فقط مع ظهور المحاسبين المحترفين
منذ ذلك الحين، تعني ندرة المحاسبين أو ندرة الاحترام الذي يحظون به أن المشكلات قادمة
في كتابه المذهل عن تاريخ المحاسبة، الذي حمل عنوان "الحساب: المساءلة المالية وبناء الأمم وتفكيكها" (The Reckoning: Financial Accountability and the Making and Breaking of Nations)، كتب جيكوب سول: "مرة تلو الأخرى، أنتجت الممارسات المحاسبية السليمة مستويات الثقة المطلوبة لتمويل الحكومات المستقرة والمجتمعات الرأسمالية الحيوية، فيما أدت الممارسات المحاسبية غير السليمة وما يصاحبها من عدم المساءلة إلى فوضى مالية وجرائم اقتصادية وقلاقل أهلية وما هو أسوأ من ذلك"
نظم المحاسبة القديمة في مدينة فلورنسا خلال عصر النهضة، التحق ما بين 4 آلاف و5 آلاف من سكان المدينة، البالغ عددهم 120 ألفاً، إلى مدارس المحاسبة في فترة ما، ودرسوا أداة القيد المزدوج الجديدة بميزانها الدقيق من الربح والخسارة. ازدهر نشاط كوزيمو دي ميديشي (1389-1464) ومصرفيين إيطاليين آخرين، لأن حساباتهم كانت بلا شائبة (كان كوزيمو بنفسه يقوم بالتدقيقات السنوية لكل أفرعه المتنوعة). كتب لوكا باتشولي، عالم الرياضيات والراهب الفرانسيسكاني، أول كتاب مهم عن المحاسبة في 1494
في العصر الذهبي بهولندا، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، استخدمت كل فئات المجتمع الهولندي، بدءاً من التجار وحتى بائعات الهوى، نظام المحاسبة بالقيد المزدوج. سمحت الثقة في "الأرقام"، على المستوى المحلي وخارج البلاد، لهولندا بإصدار أدوات مبتكرة، مثل أول شركة مساهمة عامة، وهي شركة الهند الشرقية الهولندية (Dutch East India Company)، في عام 1602، وأول بورصة. سمح ذلك أيضاً للهولنديين بطرح سندات بعائد معتمد قدره 4%
انتقل نظام المحاسبة بعدها إلى دول أكبر، مثل فرنسا وإسبانيا لفترة. لكنه أصبح أكثر استقراراً في أميركا وإنجلترا. وبصفته رئيس مكتب البريد في منتصف السبعينيات من القرن الثامن عشر، نشر بنجامين فرانكلين كتيباً إرشادياً للمحاسبة مزدوجة القيد. فيما سخر الروائي تشارلز ديكينز من هوس الصناعيين البريطانيين بالأرقام من خلال شخصية "غرادغرايند" (Gradgrind) في رواية "أوقات عصيبة" (Hard Times)
تحذيرات محاسبي أميركا إذا أدت الممارسات المحاسبية السليمة إلى الرخاء، فالممارسات المحاسبية غير السليمة أدت دوماً إلى عدم الاستقرار. أفلست إسبانيا في القرن الخامس عشر، وفرنسا في القرن الثامن عشر بسبب الجهل (المُتعمّد أحياناً) بالأساسيات المالية وبالطموح المختال بنفس القدر. (جون-بابتيست كولبير، وزير المالية الذي أعادت ابتكاراته لفرنسا نشاطها من جديد، أعطى الملك لويس الرابع عشر دفتراً للمحاسبة مُصمَّماً ليتناسب مع حجم جيبه وشجعه على كتابة ما ينفقه يومياً، لكن الملك توقف عن اتباع هذا النهج بعد وفاة كولبير)
اثنان من أكبر الصدمات لسلامة النظام المالي، وهما إفلاس شركة "إنرون" (Enron) -ومعها أيضاً انهيار شركة "أرثر أندرسن" (Arthur Andersen) في 2002- والانهيار الداخلي الذي حدث لمصرف "ليمان براذرز" (Lehman Brothers) في 2008، تضمن كلاهما أرقاماً غير سليمة
يُظهِر كل ذلك أن علينا الانتباه للتحذيرات الصادرة عن محاسبي أميركا منذ سنوات، وهي أن المهنة تعاني من نقص أصحاب المواهب. وفقاً لحسابات "بلومبرغ تاكس" (Bloomberg Tax)، انخفض عدد المحاسبين والمدققين 17% بين 2019 و2021
أزمة نقص المحاسبين يبدو أن النقص يبدأ من العرض. يتقدم كل عام أقل من 100 ألف شخص لامتحان المحاسب القانوني المعتمد، وهو الشرط اللازم للانضمام إلى المهنة، ويفشل قرابة نصفهم. انخفض عدد المتقدمين لامتحان المحاسب القانوني المعتمد 7% بين 2017 و2018، فيما تراجع عدد المتقدمين للامتحان، الذين نجحوا في أجزاء الامتحان الأربعة، 6% (من المفارقة أن الأرقام المتوفرة لأعداد المحاسبين قديمة)
تراجع حجم التسجيل الجامعي في مواد المحاسبة 4% بين 2016 و2019. وفقاً لشركة "ديلويت آند توش" (Deloitte & Touche)، كما أن 82.4% من المديرين الباحثين عن الموظفين لمناصب المحاسبة والمالية في الشركات العامة يعتقدون أن التعيين "تحدٍ كبير"
يتفاقم نقص العرض بسبب مزيج من ارتفاع وتيرة ترك المهنة والطلب المتزايد. تترك أعداد قياسية من المحاسبين الشركات ومؤسسات التدقيق، بسبب المعنويات المنخفضة والتقاعد المبكر. رغم أن أصحاب المهنة كانوا يعرفون منذ فترة طويلة أن جيل الطفرة في الولايات المتحدة ستنتج عنه أزمة في أصحاب المهارات، جاءت الأزمة في وقت مبكر أكثر من المتوقع وبشكل أشد بسبب موجة الاستقالة الكبرى
صعوبات مهنة المحاسبين يواجه المحاسبون أيضاً طلباً أكثر على مهاراتهم ووقتهم. فعليهم بانتظام قياس أشياء لم يسبق لهم قياسها من قبل أبداً، ليس أقلها تأثير الانبعاثات الكربونية على البيئة، وهي مهمة تجعلها حملات هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية على الغسل الأخضر أكثر مشقة
يتسبب التحول إلى العمل من المنزل في مشاكل جديدة يواجهونها، مثل وضع تقديرات لمكاتب خارج الموقع، فيما تجبرهم القواعد الجديدة على إعادة تقدير قيمة العقارات المستأجرة
يصبح المحاسبون أيضاً ضحية ذكائهم (أو ذكاء رؤساء شركاتهم، الذين يحاولون إخفاء أكبر قدر ممكن عن الهيئات الضريبية). وهذا يتطلب من المدققين التعامل مع نظم عالمية معقدة تسمح بتمرير الأنشطة الاقتصادية إلى الملاذات الضريبية
أوضاع قاسية كما عليهم أيضاً التعامل مع تنويعات معيار هامش الأرباح قبل الفوائد والضرائب والاستهلاك وإهلاك الدين أو "إبيتدا" (EBITDA)، مثل معيار "إبيتدار" (EBITDAR)، وهو نفس المعيار السابق باستثناء تكلفة الإيجار أو تكاليف إعادة الهيكلة أو الاثنين معاً، ومثل معيار "إبيتدا" المُعدّل (adjusted EBITDA)، الذي يستثني عدداً من بنود التكلفة
يعني نقص الكوادر أن ما تبقى من المحاسبين عليهم العمل بكد أكثر في أوضاع أشد قسوة. المحاسبون أكثر عرضة للعمل وحدهم تحت ضغط كبير بدلاً من الاستمتاع بالعمل في فريق. المدونات عن المهنة، مثل مدونة "غوينغ كونسيرن" (Going Concern) التي تكتبها أدريان غونزاليس، تمتلئ بقصص عن الأشخاص الذين أهلكوا أنفسهم بالعمل لفترات طويلة متتالية مرهقة
لذا فالنظام المالي بأكمله يرتكز بشكل متزايد على أكتاف الشباب في العشرينيات من العمر المنهكين الذين يعملون فوق طاقتهم ليشبهوا بذلك العملاق الإغريقي، "أطلس"، الذي تروي الأسطورة أنه حمل قبة السماء على كتفيه
العرض والطلب في مهنة المحاسبة لماذا لا يعتدل العرض ليلائم الطلب؟ إحدى الإجابات، التي يعترف بها المحاسبون على مضض، هي أن مهنة المحاسبة ليست جذابة. هناك.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه